قد يتبادر لذهن القارئ
للوهلة الأولى حين تفحصه للعنوان أن هذه المقالة تتناول الرواية الرائعة للكاتب السوداني الطيب صالح الذي أبدع في كتابة واحدة من أروع ما جادت به
أنامل الكتاب من روايات ،وهي تتحدث عن شاب سوداني سافر إلى بريطانيا لإكمال دراسته. وهناك يصف الكاتب البطل أنه إلى
جانب تميزه وذكائه العقلي وتحصيله الجامعي العالي يضيف رصيداً كبيراً في إثبات فحولته مع نساء
بريطانيا الذين احتلوا بلاده مع تقديم صورة ساحرة عن الحياة في المجتمع الريفي السوداني.
المهم كي لا نغوص كثيرا
في أحداث الرواية المشوقة التي أدعوكم لقرائتها،نعود لموضوع مقالتنا هذه وهو العرف
الذي أصبح مكرسا في آسا عند كل صيف " الرحيل الجماعي" صوب المناطق
الباردة أو الباردة نسبيا في هرب قسري من لهيب درجة الحرارة التي تعرفها المدينة
خلال هذه الفترة من كل سنة...
بداية فقد أجمع المؤرخون
والمستشرقون على قدرة الإنسان الصحراوي الفائقة على تحمل الآلام والمصاعب وعلى
صبره الشديد وقت الشدائد والمصائب , وعلى تمكنه من العيش على حافة الخطر وفي أحلك
الظروف , وليست هذه شيمة وراثية تنتقل كيميائياً من الآباء إلى الأبناء وإنما هي
ثقافة أنتجتها البيئة الجبلية القاسية في نفس الإنسان الذي تربى في هذه الربوع , ناهيك عن الكوارث التي
تعرض لها في تاريخه الطويل , كل هذا ترك لديه مناعة قوية هي سر استمرار هذه
المناعة المنقطعة النظير.
إلا أن رغد العيش لدى
شريحة هامة من ساكنة آسا في الوقت الحالي ممن خفت قدرتهم على الصبر و وقلت طاقتهم
على التحمل فاعتادوا على نمط من الحياة وأدمنوا عليه
مما جعلهم يرون الظروف الحالية في آسا بالغة الصعوبة ولا يمكن التأقلم معها خصوصا
مع الإرتفاع المهول لدرجات الحرارة خلافا لما تتعرض
له مناطق أخرى من الصحراء وهو الأمر الذي دفع الكثيرين إلى حزم ما أمكن من " الدبش" والرحيل صوب
مناطق أخرى ككليميم وطانطان هربا من لهيب
لافح لدرجات الحرارة خلال فصل الصيف.
لــــــــــــــكن لسان العديد ينطق وكأن خنجراً يحز في الفؤاد حزناً
وغماً على خبر يرد إلى مسامعهم كل يوم من رحيل جار أو صديق صوب مناطق أخرى وترك
المدينة وكأنها " مدينة أشباح" ...
ومن الملفت أن
تبدأ الهجرة بأصحاب الدخول العالية وميسوري الحال الذين إذا بلغت الأزمة
الاقتصادية مبلغاً فلا تصيبهم بضائقة أو عوز لما خزنوه من المال في أيامهم البيضاء
, وهذا يعني أن في أحلك الظروف سيكون وضعهم خير من أوضاع المواطنين العاديين الذين
ينتشر بينهم الفقر بصورة مرعبة .
ما يؤكد هذا الأمر هو أن من عليه الرحيل أن يحجز أو "
يدوموندي" وسيلة النقل المخصصة لذلك لحمل متاعه و " دبشه" أياما إن
لم نقل شهورا قبل حلول فصل الصيف لكي لا يتحمل مسؤولية التأخير نظرا للأعداد
الهائلة ممن يشاركونه نفس فكرة الرحيل...
والسؤال هنا الذي يحيرني بإستمرار كلما إستيقظت ذات صباح
بمنزلنا بكليميم ولا حظت قدوم جار جديد أعرف لاحقا أنه من ساكنة آسا، فيما لو استمرت
الظاهرة وازدادت : ماذا عن الذين يتركهم هؤلاء خلفهم في آسا ممن لم تتح لهم الفرصة
في المجئ ؟
يستطيع المرء أن يتفهم عدم قدرة البعض على تحمل درجات
الحرارة خصوصا في رمضان , إلا أن ترك الأهل والبلد وقت الشدائد ينطلي
على شيء من الأنانية والهروب من الواقع إنحناءً للذات رغم أن البعض يبرر
الهجرة بافتراضه أن القادم من الأيام يحمل
الكثير من الملل و الركود والضبابية والروتين حيث لا تجد " طير يدور في
آسا" بإستثناء الموظفين الذين " حصلتهم الوقت داخل مكاتبهم" , وهو
الأمر الذي لا أراه شخصيا مقنعاً بالنسبة لي.
كل هذا دون أن ننسى التطاحن الأبدي الدائر – ولو كان خفيا-
بين ساكنة آسا ونظرائهم في المناطق الأخرى ..وهو ما أشرت إليه إبان مشاركتي في
تسيير منتديات قبيلة أيتوسى الرسمية بمقال كان تحت عنوان"كليميم الحفرة،آسا البحلاسة..وتستمر العنصرية
لم أجد ما أختم به هذا المقال القصير إلا ما دعاني إليه أحد أصدقائي من آسا الذي طلب
مني إلى أن أهيب بمن قرروا الهجرة بالتفكير في العدول عن قرارهم ومراجعة خططهم والتفكير
ملياً ببدائل لهذه الظاهرة الطارئة , سيما وأن نفس المناطق التي يلجئون إليها تعرف
هي الاخرى نفس درجات الحرارة لذا فالعذر لم يعد مستساغا اللهم إن تم تغيير وجهة
الرحيل إلى جبال الإسكيمو ...
كي لا تفهم أفكاري مججدا بالشكل الذي يريده بعض " أصحاب الحسنات" فأعيد وأكرر أنني أرحب بملئ الكون بكل من كتبت لقدميه أن تطئ كليميم ولو أن الكثيرين سيقولون " مال كليميم ديالك باش تهضر"
كل صيف وأنتم بألف خير
0 التعليقات
إرسال تعليق