كما وعدتكم  سابقا تلتقون على دفعات مع سلسلة عنوانها" عندما تنهمر دموع الرجال" التي تحاول رصد تجارب من عانوا حرقة فقدان قريب أو صديق ...
السلسلة بقدر ما تحاول الإنفتاح على هذه التجارب،فإنها تتلمس لفت الإنتباه حول مصيرنا في هذه الدنيا الفانية،فالذي كان حيا اليوم قد لا يكون كذلك غدا..ولا يبقى إلا وجه ربنا ذو الجلال والإكرام.
تجربتي الشخصية جعلتني أفكر في كتابة سلسلة ذكرياتي مع أبي كما عشتها وأحسستها ورأيتها فقط،لذلك سيكون مشروع السلسلة التي كتب الله لها الخروج خلاصة لحظاتي معه كما وعيتها، دون أن تكون قصة لحياة الرجل التي تتجاوزني شمولا ووجودا...سأحاول أن أكتب ذكرياتي مع أبي لاسباب ودوافع كثيرة ومختلفة وإن كان أهمها رغبتي في إستحضار من كان ومازال لي قدوة في الحياة...


ترحل عنا في هذا الزمن العصيب الممتلئ بالفتن "فتن كقطع الليل المظلم".. ترحل عنا وليس أي رحيل؟ ونحن الذين عايشناك وعرفناك عن قرب فكنت لنا جميعا أبا بكل ما تحمل الكلمة من معنى...
نودعك بالحزن والأسى والحسرة.. نودعك بقلوب رضيت بقضاء الله وقدره، لكن الدموع أبت إلا أن تنهار وتتقاطر على ثرى ضريح رجل قضى حياته كلها ينافس مشاق الحياة في كبرياء منقطع نظير...
كيف أستطيع وصف لحظات التوديع الرهيبة التي عشتها كما عاشها كل من عرفك ، وكيف أكتب عن ذلك الفجر المهيب الذي اعتبرناه جميعا نهاية لتاريخ من العطاء والجد وخدمة الخير والأبناء، والسهر على مصالحهم ، ولأول مرة في حياتي أرى لحظات الفجر الاولى تحمل معها حسرات وأسى،سيما وأن الفجر في ذلك اليوم ـ على غير عادته ـ فجر أشر بقدوم أيام من الحزن وغياب العظماء.
صحيح لم أر لحظاتك الاخيرة في هذه الحياة بسبب إنشغالات الدراسة،لكنني  قطعت  جل الطريق نحو ضريحك وكنت حينها أتأمل ـ ويصعب علي التأمل ـ في وجوه القوم.. أخ أكبر  يحاول إمساك دمعة، وهذه أم  تتأمل المنزل الفسيح وهي تعيش أول يوم من غياب رفيق دربها، وهذا جار يحاول أن يعد من مناقب الوالد   فيعجز عن عدها ويكتفي بالقول "إنا لله وإنا إليه راجعون إن لله ما أعطى وله ما أخذ"، بنات عم وعمة غلبهن الحياء يتذكرن بمرارة وحسرة كيف رحل عنهن عم حنون كان يعلمهن ويسهر على السؤال عن أحوالهن في المدرسة ، شباب لا يكاد يخفي شدة هول الموقف...
وبعد انتقالي إلى اللحد... أحسست بعجز كامل  عن وصف أو تخيل تلك اللحظات فأنا من الذين عاشوا لحظات من الدموع المنهارة، وكنت من الذين يعجزون حتى من الاقتراب من الموقف، إذ كيف أتحمل لحظات فراق والد سهر على خدمتي بيده، أذكر الآن كيف كان يقول لي بعطف وحنان "إيلا كتب علينا مولانا الفراق،كون مؤمن ودير الخير باش نجابرو في الجنة" وأنا اليوم أقول بعد وفاتك أبي إنني أشعر باليتم مرات ومرات، فقد ودعت قبلك  خالا لي كان بمنزلة الوالد ، واليوم أودعك أنت بالدموع والحسرات دون أن أنسى في لحظة أنني مؤمن راض بقضاء الله وقدره....
أيها الوالد.. أنا اليوم يتيم مثل كثيرين في هذه الحياة الفانية، أنا اليوم أصبر وأحتسب  لتلك المصيبة عند الله عز وجل الذي يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب...
 أنا اليوم ـ كما رجال ونساء العائلة ـ أشعر بنهاية تاريخ من الخدمة والسهر علينا جميعا، فكم مرة أخبرنا أشخاص بعد رحيلك عن خير ومعروف صنعته لهم و قمت به  دون أن تحدثنا عنه في يوم من الأيام،عملا بمبدأ ديننا "ولا تتبعو الصدقات بالمن والسلوى".
لقد بكاك كل من عرفك ... وستبقى سيرتك تتعطر بها المجالس الطيبة ... وقد أرادك الله في أيام مباركة ... في أيام عيد الفطر ...
حتى  في رحيلك إلى الرفيق الأعلى ... فقد تحركت مشاعر وعواطف وأحاسيس كل من حضر وشيع .. ودعناك أباه وبكينا على فراقك لأنه فراق أبدي ..
ورثنا منك كل ما لدينا من بعض الخلق الحسن ... خلفت لنا بعد رحيلك نموذجاً في الأبوة  يستحيل نسيانه ... وزرعت في وجداننا رصيدا معنويا هائلا ... ورثنا منك العادات الطيبة ... وورثنا منك التقاليد الأصيلة والاحترام ... أنت يا أباه باختصار شديد ... أكاديمية مكارم الأخلاق ... وسنكون بإذن الله امتدادا لسلف صالح ... مؤمن بربه وعقيدته ومؤمن بموروثاتنا الحميدة التي ورثناها عن السلف الطيب ... وهي عديدة وكثيرة ... ولو أنها غدت عند البعض في يومنا هذا ... آرشيفا بل عملة نادرة ...
نفتدقك والله يا أبي وَنَحِنُ إليك ... وما زال صوتك في أذني ... وأنت تتضرع للمولى عز وجل ... بكلمات رائعة معبرة لم ندرسها عند فطاحلة المعبرين في الجامعات ... كلمات نابعة من روح ديننا الحنيف
ارقد هنالك أيها الرجل في زمن قل فيه الرجال، ارقد هنالك في مقبرة الرحمة قرب عشرات الأئمة والفضلاء، ارقد في المقبرة ولن ينساك التاريخ أبدا... لقد وضعت بصمات فينا لن يسناها إلا مكابر معاند، ارحل ونحن راضون عنك جميعا ورحمات الله عليك تترى، وعلى كل العظماء الذين سبقوك في المقبرة "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".

0 التعليقات

إرسال تعليق